فصل: من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَكَذَلِكَ صَرْفُ الذِّهْنِ إلَى حِكَايَةِ أَقْوَالِ النَّاسِ وَنَتَائِجِ أَفْكَارِهِمْ. وَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ القرآن عَلَى قول مَنْ قَلَّدَ دِينَهُ أَوْ مَذْهَبَهُ فَهُوَ يَتَعَسَّفُ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى يَجْعَلَ القرآن تَبَعًا لِمَذْهَبِهِ وَتَقْوِيَةً لِقول إمَامِهِ وَكُلٌّ مَحْجُوبُونَ بِمَا لَدَيْهِمْ عَنْ فَهْمِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرِهِ. وَكَذَلِكَ يَظُنُّ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْ القرآن حَقَّ قَدْرِهِ أَنَّهُ غَيْرُ كَافٍ فِي مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ؛ بَلْ الْكَافِي فِي ذَلِكَ عُقول الْحَيَارَى والمتهوكين الَّذِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ خَالَفَ صَرِيحَ القرآن مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً. وَهَؤُلَاءِ أَغْلَظُ النَّاسِ حِجَابًا عَنْ فَهْمِ كِتَابِ اللَّهِ تعالى وَاَللَّهُ سبحانه وَتعالى أَعْلَمُ. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} [22]
قال: كل من صح إيمانه فإنه لا يأنس بمبتدع ويجابهه، ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه، ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعًا سلبه الله حلاوة السنن، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عزة في الدنيا وعرضًا، أذله الله بذلك العز، وأفقره الله بذلك الغنى، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب.
قوله تعالى: {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} [22] قال: كتب الله الإيمان في قلوب أوليائه سطورًا، فالسطر الأول التوحيد، والثاني المعرفة، والثالث الصدق، والرابع الاستقامة، والخامس الصدق، والسادس الاعتماد، والسابع التوكل.
وهذه الكتابة هي فعل الله لا فعل العبد، وفعل العبد في الإيمان ظاهر الإسلام، وما يبدو منه ظاهرًا وما كان منه باطنًا فهو فعل الله تعالى.
وقال أيضًا: الكتابة في القلب موهبة الإيمان التي وهبها الله منهم قبل أن خلقهم من الأصلاب والأرحام، ثم أبدى بصرًا من النور في القلب، ثم كشف الغطاء عنه حتى أبصروا ببركة الكتابة ونور الإيمان المغيبات.
وقال: حياة الروح بالذكر، وحياة الذكر بالذاكر وحياة الذاكر بالمذكور، رضي الله عنهم بإخلاصهم له في أعمالهم، ورضوا عنه بجزيل ثوابه لهم على أعمالهم.
{أولئك حِزْبُ الله} [22] الحزب الشيعة، وهم الأبدال، وأرفع منهم الصديقون.
{أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} [22] يعني هم الوارثون أسرار علومهم المشرقون على معاني ابتدائهم وانتهائهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
مِنْ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا} إلَى قولهِ: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} رَوَى سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قلابة قال: كَانَ طَلَاقُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ جَعَلَ اللَّهُ فِي الظِّهَارِ مَا جَعَلَ فِيهِ، وَجَعَلَ فِي الْإِيلَاءِ مَا جَعَلَ فِيهِ.
وَقال عِكْرِمَةُ: كَانَتْ النِّسَاءُ تُحَرَّمُ بِالظِّهَارِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا} الْآيَةَ.
وَأَمَّا الْمُجَادَلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا قال: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِي قولهِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا}: (فِي امْرَأَةٍ يُقال لَهَا خويلة) وَقال عِكْرِمَةُ: بِنْتُ ثَعْلَبَةَ وَزَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، قالتْ إنَّ زَوْجَهَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ» وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يَغْسِلُ رَأْسَهُ، فَقالتْ: اُنْظُرْ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك يَا نَبِيَّ اللَّهِ قال: «مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فَأَعَادَتْ ذَلِكَ مِرَارًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا} إلَى قولهِ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} قال قَتَادَةُ: حَرَّمَهَا ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ لَهَا فَيَطَأَهَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
قال أَبُو بَكْرٍ: قولهُ عليه السلام: «مَا أَرَاك إلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ» يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ الظِّهَارِ، وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمَ الظِّهَارِ؛ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْآيَةِ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذَا الْقول، فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَهُ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ وَرَفْعُ النِّكَاحِ؛ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ قَدْ كَانَ ثَابِتًا فِي الشَّرِيعَةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الظِّهَارِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَكَمَ فِيهَا بِالطَّلَاقِ بِقولهِ: «مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ» فَكَيْفَ حَكَمَ فِيهَا بِعَيْنِهَا بِالظِّهَارِ بَعْدَ حُكْمِهِ بِالطَّلَاقِ بِذَلِكَ الْقول بِعَيْنِهِ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ؟ وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فِي الْمَاضِي قِيلَ لَهُ: لَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الْقول فِيهِ فَقال: «مَا أُرَاكِ إلَّا قَدْ حَرُمْتِ» فَلَمْ يَقْطَعْ بِالتَّحْرِيمِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تعالى قَدْ أَعْلَمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ سَيَنْسَخُ هَذَا الْحُكْمَ وَيَنْقُلَهُ مِنْ الطَّلَاقِ إلَى تَحْرِيمِ الظِّهَارِ الْآنَ، فَجَوَّزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ الْآيَةَ فَلَمْ يُثْبِتْ الْحُكْمَ فِيهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ حَكَمَ فِيهَا بِمُوجِبِهَا.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقول وَزُورًا}، يَعْنِي- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- فِي تَشْبِيهِهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ، لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأُمِّ مُحَرَّمٌ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وَهِيَ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقول تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَكَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا مِنْ الْقول وَزُورًا، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قال اللَّهُ: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} وَلَمْ يُخَصِّصْ الْمَذْكُورِينَ فِي الثَّانِيَةِ قِيلَ لَهُ: الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي الْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا قولهُ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} قال: الْوَطْءُ، فَإِذَا حَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ قال: إذَا تَكَلَّمَ بِالظِّهَارِ لَزِمَهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ إذَا قال أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَقَتَادَةَ: إذَا أَرَادَ جِمَاعَهَا لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي مَعْنَى الْعَوْدِ، فَقال أَصْحَابُنَا وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: الظِّهَارُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا لَا يَرْفَعُهُ إلَّا الْكَفَّارَةُ. وَمَعْنَى الْعَوْدِ عِنْدَهُمْ اسْتِبَاحَةُ وَطْئِهَا فَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا بِكَفَّارَةٍ يُقَدِّمُهَا.
وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ وَطِئَهَا ثُمَّ مَاتَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ. وَقال الثَّوْرِيُّ: إذَا ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بَعْدَ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقول أَصْحَابِنَا، وَقال ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: إذَا أَجْمَعَ بَعْدَ الظِّهَارِ عَلَى إمْسَاكِهَا، وَإِصَابَتِهَا فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ وَلَمْ يُجْمِعْ عَلَى إمْسَاكِهَا، وَإِصَابَتِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ وَطِئَهَا ثُمَّ مَاتَتْ فلابد مِنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ بَعْدَ الظِّهَارِ وَقال أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: إذَا أَجْمَعَ بَعْدَ الظِّهَارِ عَلَى إمْسَاكِهَا، وَإِصَابَتِهَا وَطَلَبَ الْكَفَّارَةَ فَمَاتَتْ امْرَأَتُهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقال الْحَسَنُ: إذَا أَجْمَعَ رَأْيُ الْمَظَاهِرِ عَلَى أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَرَادَ تَرْكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مُجَامَعَتِهَا.
وَقال عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فِيمَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا قال: أَرَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ رَاجَعَهَا أَوْ لَمْ يُرَاجِعْهَا، وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ يَصِلْ إلَى مِيرَاثِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ.
وَقال الشَّافِعِيُّ: إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الظِّهَارِ فَلَمْ يُطَلِّقْ فَقَدْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ مَاتَتْ أَوْ عَاشَتْ.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا يُعَدُّ خِلَافًا أَنَّ الْعَوْدَ أَنْ يُعِيدَ الْقول مَرَّتَيْنِ قال أَبُو بَكْرٍ: رَوَتْ عَائِشَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ أَنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ خَوْلَةَ حِينَ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ {فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعِتْقِ رَقَبَةٍ فَقال لَا أَجِدُ فَقال صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قال لَوْ لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَادَ أَنْ يُغْشَى عَلَى بَصَرِي فَأَمَرَهُ بِالْإِطْعَامِ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قول مَنْ اعْتَبَرَ الْعَزْمَ عَلَى إمْسَاكِهَا وَوَطْئِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَبُطْلَانِ قول مَنْ اعْتَبَرَ إرَادَةَ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، وَبُطْلَانِ قول مَنْ اعْتَبَرَ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَلْ طَلَّقْتهَا، وَبُطْلَانِ قول مَنْ اعْتَبَرَ إعَادَةَ الْقول؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ هَلْ أَعَدْت الْقول مَرَّتَيْنِ؛ فَثَبَتَ قول أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الظِّهَارِ يُوجِبُ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ.
وَمَعْنَى قوله تعالى-: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ الْحَالِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الظِّهَارُ فَقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} قَبْلَ هَذِهِ الْحَالِ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} وَالْمَعْنَى: وَيَعُودُونَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَى ذَلِكَ، كَمَا قال تعالى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} وَمَعْنَاهُ: وَاَللَّهُ شَهِيدٌ، فَيَكُونُ نَفْسُ الْقول عَوْدًا إلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا قال: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}.
وَالْمَعْنَى: حَتَّى صَارَ كَذَلِكَ، وَكَمَا قال أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
هَذِي الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ** شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالًا

مَعْنَاهُ: صَارَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الثَّدْيِ لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ وَكَمَا قال لَبِيدٌ: وَمَا الْمَرْءُ إلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ وَيَحُورُ يَرْجِعُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ هاهنا يَصِيرُ رَمَادًا.
كَذَلِكَ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إلَى حَالِ الظِّهَارِ الَّذِي كَانَ يَكُونُ مِثْلُهُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي الظِّهَارِ إيجَابُ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ مُوَقَّتًا بِالْكَفَّارَةِ، فَإِذَا كَانَ الظِّهَارُ مَخْصُوصًا بِتَحْرِيمِ الْوَطْءِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي رَفْعِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ هُوَ الْعَوْدَ إلَى اسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ بِالظِّهَارِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: يَعُودُونَ لَلْمَقول فِيهِ، كَقولهِ عليه السلام: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ فِي الْمَوْهُوبِ، وَكَقولنَا: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَجَاؤُنَا، أَيْ مَنْ رَجَوْنَا؛ وَقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّك حَتَّى يَأْتِيَك الْيَقِينُ} يَعْنِي: الْمُوقِنَ بِهِ وَقال الشَّاعِرُ: أَخْبِرْ مَنْ لَاقَيْت أَنْ قَدْ وَفَيْتُمْ وَلَوْ شِئْت قال الْمُنَبِّئُونَ أَسَاءُوا، وَإِنِّي لَرَاجِيكُمْ عَلَى بُطْءِ سَعْيِكُمْ كَمَا فِي بُطُونِ الْحَامِلَاتِ رَجَاءُ يَعْنِي مَرْجُوًّا وَكَذَلِكَ قولهُ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا} مَعْنَاهُ: لِمَا حَرَّمُوا، فَيَسْتَبِيحُونَهُ فَعَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الِاسْتِبَاحَةِ وَيَبْطُلُ قول مَنْ اعْتَبَرَ الْبَقَاءَ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظِّهَارَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ وَالْإِمْسَاكَ فَيَكُونُ الْعَوْدُ إمْسَاكُهَا عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ لَا مَحَالَةَ قَدْ اقْتَضَى عَوْدًا إلَى حُكْمِ مَعْنًى قَدْ تَقَدَّمَ إيجَابُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِمْسَاكِ عَلَى النِّكَاحِ فِيهِ تَأْثِيرٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ} و(ثُمَّ) يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ، وَمَنْ جَعَلَ الْعَوْدَ الْبَقَاءَ عَلَى النِّكَاحِ فَقَدْ جَعَلَهُ عَائِدًا عَقِيبَ الْقول بِلَا تَرَاخٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ.
وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْعَوْدَ الْعَزِيمَةَ عَلَى الْوَطْءِ فَلَا مَعْنَى لِقولهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقول هُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ لَا تَحْرِيمُ الْعَزِيمَةِ، وَالْعَزِيمَةُ عَلَى الْمَحْظُورِ، وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً فَإِنَّمَا تَعَلَّقَ حُكْمُهَا بِالْوَطْءِ، فَالْعَزِيمَةُ عَلَى الِانْفِرَادِ لَا حُكْمَ لَهَا، وَأَيْضًا لَا حَظَّ لِلْعَزِيمَةِ فِي سَائِرِ الْأُصُولِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْعُقُودِ، وَالتَّحْرِيمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَزِيمَةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا؟ وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ عَفَا لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ» فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَ الْعَوْدُ إعَادَةَ الْقول مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ كَمَا قال اللَّهُ تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} وَمَعْنَاهُ لَفَعَلُوا مِثْلَ مَا نُهُوا عَنْهُ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ.